يصاب بالإنفلونزا، في سنة نموذجية، نحو 10 في المائة من الأميركيين، ورغم أن الكثير من الناس يعتقدون أن الإنفلونزا مرض خفيف، فإن نحو 200 ألف أميركي يصابون بها بشكل يدفعهم إلى الدخول في المستشفيات، فيما يُتوفى بين 20 و40 ألفا منهم بسبب العدوى.
وقد أصبحت سنة 2009 سنة نموذجية فعلا، فقد أضحينا وسط وباء عالمي للإنفلونزا التي يسببها فيروس ظهر أول مرة في المكسيك في منتصف شهر فبراير الماضي.
وقد أُنفقت مليارات الدولارات على خطط مجابهة هذا الفيروس، كما سيصطف الأميركيون للتطعيم بنوعين من اللقاحات، أحدهما ضد الإنفلونزا الموسمية التي تظهر مع اقتراب فصل الشتاء، والآخر ضد سلالة الوباء الجديد.
وحتى الآن، كان وباء 2009 منتشرا أكثر من كونه قاتلا، فلم تسجل سوى عدة آلاف من الوفيات به حول العالم.
كما أنه لم يتحول إلى وباء قاتل في أثناء قمة موسم الإنفلونزا في نصف الكرة الأرضية الجنوبي في يونيو ويوليو وأغسطس.
ويعتقد خبراء الإنفلونزا أن الفيروس يتسم بخصائص داخلية ربما تجعله أقل إثارة للمرض ـ أي أن قابليته قليلة في إحداث حالة مرضية خطيرة ـ مقارنة بالسلالات الأخرى.وعندما نتحدث عن الوباء لا يزال لدينا الكثير من الآمال، ومع هذا فإن الصعب تقديم توقعات مؤكدة حول الإنفلونزا الوبائية هذه لعدد من الأسباب، ففيروسات الإنفلونزا تشتهر بشهرة سيئة هي أنها غير مستقرة في تركيبتها الجينية، ولذلك فإن موجة وباء الإنفلونزا الجديدة قد تصبح قوية، إن حدث وحصلت تحويرات في فيروسها.
كما أن من الصعب وضع التوقعات حول ردات الفعل المناعية، إذ يرجع انتشار العدوى الوبائية جزئيا إلى أن أعدادا كبيرة من الناس لا توجد لديهم حماية مناعية ضد عدوى جديدة.
ولكن، في بعض الأحيان، يكون الفيروس الجديد قريبا جدا من الفيروسات التي كانت منتشرة سابقا، ولذا تتمكن أجهزة المناعة لدى الكثير من الناس من مجابهة القادم الجديد.كما أن السياسات الصحية العامة ـ على حد سواء مع كيفية استجابة الناس لها ـ تبقى ورقة مبهمة أيضا، إذ يقول المؤرخون إن أحد أسباب شدة وباء إنفلونزا 1918ـ1919، أن السلطات الصحية الحكومية لم تقم بمهمتها إذ أخفقت في رصد المخاطر، ولم ترغب في نشر الرعب بين صفوف السكان.
أما حاليا فإن استجابة الجمهور للوباء الجديد قد وصلت إلى أعلى درجاتها، دون أن يؤدي ذلك إلى حدوث حالة من الرعب.
ما على السطح</STRONG>
إن انتشار أوبئة أي عدوى تنفسية يتم قبل أن يفهم العلماء أسباب حدوثها، وقد درس العلماء فيروسات الإنفلونزا وصنفوها إلى مجموعات: مجموعة «إيه» A، و«بي» B، و«سي» C.
والفيروسات في مجموعة «إيه» هي أكثرها التي تسهم في حدوث المشكلات الصحية، فهي قادرة على نشر العدوى بين الناس، والحيوانات اللبونة (الثدييات) الأخرى، والطيور.
وفيروس الوباء الجديد ـ وأكثرية فيروسات الإنفلونزا التي سنسمع عنها ـ هي من مجموعة «إيه».
ووفقا للتصنيفات الفرعية المعتمدة فإن فيروسات الإنفلونزا تقسم لاحقا، كما تسمى أيضا، وفقا لاثنين من البروتينات يوجدان على غلافها الخارجي، وهما هيماجلوتينين hemagglutinin، الذي يتغلغل نحو الخلايا ويصيبها بالعدوى، وهي الطريقة التي «يضع فيها الفيروس قدمه عبر الباب».
أما البروتين الآخر فهو نيروامينيدايس neuraminidase، وهو نوع مختلف من البروتين يوجد على السطح، ويسمح لوليد الفيروس بالهروب بعد أن نفذ عملية التكاثر.
ولا يُستخدم في أسماء الإنفلونزا إلا الحروف الأولى من هذين البروتينين: وهي «إتش»H و«إن» N، إضافة إلى الأرقام.
وقد تعرف العلماء 16 شكلا من هيماجلوتينين، وعلى 9 أشكال من نيروامينيدايس. وهذه الأشكال تؤلف 144 شكلا من الأزواج.
وحتى اليوم توجد ثلاث توليفات منها تنتقل من شخص إلى آخر هي «إتش1 إن1» H1N1، و«إتش2 إن2» H2N2، و«إتش3 إن2» H3N2، ولذلك فإنها قادرة على إحداث الوباء بين البشر.
والفيروس الوبائي لسنة 2009 له توليفة «إتش1 إن1».
إن فيروسات الإنفلونزا تكون أشد في عدواها وتحدث حالة مرضية شديدة عندما تنتشر في الأجواء الباردة الجافة.
ولأن الفيروس يحب الجو البارد فإن موسم العدوى القصوى يبدأ في نصف الكرة الأرضية الشمالي في شهر نوفمبر، وينتهي في مايو، أما في نصف الكرة الجنوبي فيكون بين مايو وسبتمبر .وفي منطقة خط الاستواء لا يوجد موسم حقيقي للإنفلونزا في الواقع، أو للإنفلونزا نفسها إلا قليلا.
وربما كانت موجة العدوى في ربيع 2009 أخف مما كان متوقعا لأن الطقس في نصف الكرة الشمالي كان يتجه نحو السخونة.
كما أنه لم يكن شديدا في نصف الكرة الجنوبي لأن عددا قليلا من السكان يعيشون في مناطق باردة منها.وقد يرتد فيروس «إتش1 إن1» ليضرب بقوة هذا الشتاء، وهو أفضل المواسم لعدوى الإنفلونزا، في المناطق الكثيفة بالسكان في نصف الشمالي من الكرة الأرضية.
«تحليق» إنفلونزا الطيور</STRONG>
الطيور، وخصوصا البط وطيور الماء، هي الوعاء الطبيعي لفيروسات الإنفلونزا من مجموعة «إيه».
وفي غالبية الأحيان تتعايش الطيور مع هذه الفيروسات، إذ لا تؤدي الفيروسات إلا إلى إلحاق أضرار طفيفة، في أثناء نشاطها في تبادل الجينات، وتحويرها، داخل الجهاز الهضمي للطيور.
ولكن، في بعض الأحيان فإن فيروسات الإنفلونزا في تلك الطيور تتغير بطريقة تصبح فيها قادرة على انتقال العدوى إلى أنواع أخرى حية غير الطيور.
ويعتقد الباحثون الآن أن وباء إنفلونزا 1918-1919 الذي هلك بسببه نحو 40 مليون شخص حول العالم وفقا للتقديرات، كان مصدره فيروس لإنفلونزا الطيور الذي لم يقفز من الطيور نحو الإنسان فحسب، بل وتمكن أيضا من التكيف مع الجهاز التنفسي للإنسان، الأمر الذي سهل له الانتقال بسهولة من إنسان إلى آخر.وكان ذلك الفيروس هو فيروس «إتش1 إن1» الأصلي، وهو الجد الأكبر للعديد من الفيروسات التي ستأتي بعده.
وفي ما عدا الفجوة التي وقعت بين عامي 1957 و1977، فقد كانت هناك أشكال مختلفة من فيروس «إتش1 إن1» التي تكيفت مع الإنسان، تنشر عدواها بين الناس.
أما الأوبئة اللاحقة (في عامي 1957 و1968) فقد حدثت بسبب فيروسات كانت تركيبتها الجينية تحتوي على خليط من جينات فيروس «إتش1 إن1» وفيروسات إنفلونزا الطيور.
عام 1997 ظهر في هونغ كونغ فيروس جديد لإنفلونزا الطيور هو «إتش5 إن1» H5N1، وقد تم حصر انتشار وبائه، ومع هذا فقد ظل «إتش5 إن1» الفيروس الرئيسي الذي يقلق العلماء حتى ظهور الوباء الجديد عام 2009 الحالي.
ولكونه فيروسا جديدا لإنفلونزا الطيور لا يتمتع جسم الإنسان بأي حصانة ضده، فإن «إتش5 إن1» كان يمكن أن يقود إلى وباء على غرار وباء 1918ـ1919.
وكان يمكن أن يكون قاتلا لأنه يقود إلى وفاة نصف المصابين به، إلا أنه حتى الآن لم يصب بعدواه إلا بضع مئات من الأشخاص كما أن انتقاله لم يكن سهلا من شخص إلى آخر.ويجب علينا التأكيد هنا على عبارة «حتى الآن»، ففيروس «إتش5 إن1» يمكن أن يتغير ليصبح فيروسا معديا.وعلى نفس المنوال فإن فيروس «إتش1 إن1» الذي تنتقل عدواه بسهولة، إلا أنه ليس قاتلا، قد يخضع لتحويرات جينية ويتحول إلى فيروس قاتل.
«خلطة الخنازير»
</STRONG>فيروس «إتش5 إن1» لإنفلونزا الطيور الذي استوطن في «منزله» الجديد داخل الجهاز التنفسي للإنسان عام 1918، استطاع في تلك السنة أيضا، أن يفتح لنفسه «متجرا» داخل قصبات الخنزير الهوائية.
وخلال عقود السنين الست اللاحقة أو ما يقاربها، ظل فيروس «إتش1 إن1» المتكيف مع الخنزير، ينتشر بين الخنازير في الولايات المتحدة، مع حالات عابرة انتقلت فيها عدواه نحو الإنسان، رغم أن حالات انتقال العدوى من الخنزير إلى الإنسان حدثت على الأكثر على نطاق أوسع مما هو معروف، لأن الأعراض المصاحبة لإنفلونزا الخنازير كانت متشابهة مع أعراض الإنفلونزا الموسمية.
وقد وصفت الخنازير بأنها الوعاء المهيأ طبيعيا لخلط فيروسات الإنفلونزا لأنها، أي الخنازير، كانت تُصاب بسهولة بعدوى فيروسات إنفلونزا الطيور، وبعدوى الفيروسات الأخرى التي تكيفت مع جسم الإنسان.
وهكذا بدأ في الانتشار بين الخنازير في الولايات المتحدة منذ عام 1999 أو نحوه، فيروس جديد «ثلاثي المنشأ» تضم تركيبته الجينية عناصر من فيروسات الطيور والإنسان والخنازير.
أما الخنازير في أوروبا وفي الصين فقد كانت مصابة منذ عام 1979 بفيروس من نوع آخر، هو أحد أنواع فيروسات إنفلونزا الطيور المتكيفة مع جسم الخنزير.
وبدا فيروس «إتش1 إن1» الجديد وكأنه خليط من بعض الجينات من الفيروس الثلاثي المنشأ، ومن جينات أخرى من الفيروس الأوروبي الآسيوي.
وكانت آخر موجة كبرى لوباء إنفلونزا الخنازير قد انتشرت عام 1976 بين جنود في قاعدة فورت ديكس في نيوجيرسي.
وقامت السلطات الصحية الاتحادية بتنظيم حملة تطعيم طالتها انتقادات عنيفة لسببين رئيسيين: السبب الأول لأنه ظهر أن اللقاح المضاد له مخاطر (لم تزد عن 1 من كل 100 ألف حالة تطعيم) تؤدي إلى حدوث متلازمة «غيليان ـ باريه»، وهي اضطراب في الجهاز المناعي يقود إلى مهاجمة الجهاز العصبي.
إلا أن الأهم من ذلك أن العدوى لم تنتشر خارج نيوجيرسي، قبل أن تبدأ حملة التطعيم تلك.
وعلى العكس من ذلك فإن عدوى «إتش1 إن1» لإنفلونزا الخنازير الحالية انتشرت الآن بالفعل حول العالم، ولذلك فإنها ستزداد انتشارا في الشتاء.
إخفاقات رصد العدوى</STRONG>
في منتصف شهر أبريل الماضي بدأ المسؤولون الأميركيون والمكسيكيون في التحقق من انتشار عدوى الإنفلونزا الجديدة، إلا أن المعطيات الوبائية المتوفرة حاليا تشير إلى انتشار أعراض شبيهة بالإنفلونزا وبائيا قبل شهرين من ذلك الوقت.
وبحلول نهاية شهر مايو انتشرت العدوى الجديد في 40 دولة، ثم أعلنت منظمة الصحة العالمية حالة الوباء العالمي الشامل في يونيو.
إن تعبير الوباء العالمي هو مصطلح فني تعتمده منظمة الصحة العالمية ويحمل هذا التعبير معاني مخيفة، إلا أنه لا يعني أن العدوى أشد، بل يعني أن الوباء قد أصبح عالميا.
الأعراض
</STRONG>أعراض الإنفلونزا الجديدة تشبه أعراض الإنفلونزا الموسمية: السعال، والحمى، وأوجاع العضلات، والتهاب البلعوم، وما شابه، إلا أن الدوار والتقيؤ قد يكونان أكثر شيوعا بقليل، فيما قد يقل ظهور الحمى.
ولذلك فإن أصبت بالإنفلونزا في الخريف أو الشتاء فإن من الصعب تحديد نوعها: إنفلونزا الخنازير «إتش أن ان 1» أو الإنفلونزا الموسمية، بملاحظة الأعراض فقط.كما يبدو أن عدوى الإنفلونزا الجديدة تنتقل بنفس طريقة انتقال الإنفلونزا الموسمية: عبر قطرات الرذاذ المنطلق من الجهاز التنفسي في أثناء سعال أو عطاس المصاب.
لذا فإن توصيات الوقاية منها تظل مشابهة لتوصيات الوقاية من الإنفلونزا الموسمية.
عدوى الصغار والكبار</STRONG>
الفرق الكبير بين عدوى الإنفلونزا الوبائية وعدوى الإنفلونزا الموسمية، هو في إصابة الإنفلونزا الوبائية للأشخاص الأصغر سنا، والنساء الحوامل، والأشخاص المصابين بالسمنة، بشكل أقوى من إصابة عدوى الإنفلونزا الموسمية لهم.
وقد يبدو الأشخاص الأصغر سنا أكثر تهدُّدا بالإصابة، مقارنة بالأشخاص الأكبر سنا لأن الأكبر سنا ربما كانوا يتمتعون بنوع من الحصانة ضد الفيروس الجديد لتعرضهم لفيروسات «إتش1 إن1» مماثلة كانت منتشرة في أعوام ماضية.
وقد وضعت السلطات الصحية الأميركية أولويات التطعيم باللقاحات المضادة الجديدة، التي تشمل أولا النساء الحوامل، ثم الأطفال والشبان بين عمر 6 أشهر و 24 سنة، يليهم مقدمو الرعاية للأطفال من عمر 6 أشهر فأقل، ثم الأشخاص بين أعمار 25 و64 سنة من المصابين بأمراض مزمنة، وأخيرا أفراد طاقم الرعاية الصحية.أما أولوية التطعيم بلقاح الإنفلونزا الموسمية فتشمل أولا كبار السن لأنهم من أكثر المهددين بعدواها.
وأخيرا فإن موسم الإنفلونزا الحالي قد يحمل معه الكثير من الأمور المدهشة، إلا أنه سيتميز بظهور أربعة احتمالات: إغلاق المدارس بسبب الإنفلونزا، وتفادي التجمعات في المناطق العامة، وقلة تجهيزات اللقاحات المضادة، واحتمال تطوير منديل يوضع على داخل مرفق اليد، وهو أسهل موقع يتفادى فيه الإنسان انتقال العدوى في أثناء السعال أو العطاس!
6 نصائح لمكافحة الإنفلونزا</STRONG>
- خذ اللقاح المضاد.
- تجنب المصافحة.
- اغسل يديك دوما.
- استخدم المنديل، بل حتى رداءك، لتغطية وجهك في أثناء السعال والعطاس.
- استرح في المنزل حال شعورك بأعراض الإنفلونزا.
- خزن التجهيزات اللازمة في حالات الطوارئ التي قد تقود إلى إغلاق المحلات العامة.
اتجاهات انتشار الوباء العالمي
</STRONG>إن مسارات واتجاهات انتشار وباء الإنفلونزا الجديدة غير مؤكدة، إلا أن أسبابا عديدة تدعو إلى التفاؤل الحذر في أننا لن نشهد مشهدا مماثلا لما حدث عامي 1918 و1919، فالناس يتمتعون اليوم بصحة أفضل ولا يعانون نقصًا في التغذية مثل أسلافهم.
كما أن لدينا اليوم لقاحات مضادة وأدوية مضادة للفيروسات ـ «تاميفلو» و«ريلنزا» ـ للعلاج، وتسهل المضادات الحيوية مكافحة العدوى البكتيرية التي تصيب الرئتين بعد الإصابة بعدوى فيروس الإنفلونزا.
وأخيرا فإن منظومة الصحة العمومية ممتازة، رغم الثغرات الموجودة فيها.